(ورقة أعدّها المدير التنفيذي للشبكة السورية لحقوق الإنسان)
تقدّم هذه الورقة قراءةً نقدية للإعلان الدستوري السوري لعام 2025، فتستعرض ظروف صياغته ومضمونه وبنيته المؤسسية، وتُبرز مكامن القصور والفرص المتاحة لتحويله إلى إطار انتقالي أكثر شمولية وتشاركية، بما يوازن بين مقتضيات الاستقرار ومبادئ الحكم الرشيد.
سياق الإصدار وأهداف المرحلة الانتقالية
أدّى انهيار نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى فراغ دستوري ومؤسسي خطير، ما دفع السلطات الجديدة إلى إصدار إعلان دستوري في مارس/آذار 2025 مؤلّف من 53 مادة، استلهم بعض عناصر دستور 1950، وتعهد بإرساء دولة المواطنة والحرية وسيادة القانون. تؤكد هذه الورقة أنّ الإعلان ساهم في تجنّب الفوضى وإدارة المرحلة الانتقالية، إذ جمع بين عناصر إيجابية كالتنصيص على حقوق الإنسان، وأخرى مثيرة للقلق كتركيز السلطات بيد السلطة التنفيذية وضعف الطابع التشاركي. وبالنظر إلى طبيعته المؤقتة وإمكانية تعديله بموجب المادة 50، تتبدّى فرصة واقعية لإصلاحه وجعله أساساً لتحوّل ديمقراطي فعّال.
معيار الشرعية: نحو عملية دستورية تعددية وتشاركية
ترتكز شرعية الوثائق الدستورية الانتقالية إلى اتسامها بعملية صياغة تشاركية واسعة، لا إلى قرارات أحادية لسلطة سياسية أو عسكرية منتصرة. وتقترح هذه الورقة ثلاث ركائز لتحقيق انتقال ديمقراطي ذي مصداقية:
- هيئة حاكمة توافقية تُشكَّل بالتوافق الوطني، تضمّ ممثلين عن القوى السياسية والمجتمع المدني والنقابات والنساء والشباب، بما يحول دون احتكار السلطة.
- حوار وطني شامل يتناول قضايا جوهرية مثل شكل الدولة، والعلاقة بين الدين والسياسة، والعدالة الانتقالية، وحقوق الأقليات.
- لجنةٌ تمثيلية لصياغة الدستور تنقل ما يُتّفق عليه سياسياً إلى إطار قانوني، بمشاركة خبراء وحقوقيين وممثلين عن المكوّنات المجتمعية، مع ضمان الشفافية والمراجعة الشعبية.
في التطبيق العملي: هيمنة تنفيذية وعيوب هيكلية
تُظهر القراءة الإجرائية أنّ الإعلان شابه عددٌ من الاختلالات:
– اختزال السياسة في مقاربة تكنوقراطية؛ إذ أُعدّ الإعلان عبر لجنة ضيقة بقرار رئاسي من دون حوار وطني موسّع أو مشاركة حقيقية لأطياف المجتمع.
– غياب التمثيل السياسي والاجتماعي؛ إذ استند اختيار أعضاء اللجنة إلى معايير قانونية وتقنية فحسب، من دون مراعاة التوازن والعدالة والتمثيل المتنوّع.
نتيجةً لذلك، قُدّم الإعلان كمشروع تقني منزوعٍ من طابعه السياسي الوطني التشاركي المفترض في عمليات تأسيس الدساتير. كما تعتريه عيوب جوهرية على النحو الآتي:
- تبعية قضائية: منحت المادة 47 رئيس الدولة سلطة تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا منفرداً، مع الإبقاء على صلاحيات واسعة لوزارة العدل في شؤون القضاة، بما يجرّد القضاء من استقلاله الفعّال.
- برلمان شكلي: خوّلت المادة 24 الرئيسَ تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب مباشرةً، وتعيين اللجنة المختصّة باختيار الثلثين الباقيين، بما يضمن تبعية المجلس للسلطة التنفيذية. كما حَدّت المادة 30 من دوره إلى “طرح أسئلة على الوزراء”، بما يعطّل وظيفتي الرقابة والتشريع.
- صلاحيات تنفيذية واسعة: احتكر الرئيس تعديل الدستور بموجب المادة 50، وأنيط به إعلان الحرب والطوارئ عبر مجلس يعيّنه بنفسه وفق المادة 41، ومنحته المادة 37 سلطة المصادقة النهائية على المعاهدات الدولية حتى بعد إقرارها برلمانياً.
الحقوق والحريات في إعلان 2025: بين التنصيص والتقييد
تناقش الورقة منظومة الحقوق والحريات كما وردت في الإعلان، وتخلص إلى ما يلي:
– إدراجُ المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان في المادة 12 خطوةٌ إيجابية، غير أنّ المادة 23 تسمح بتقييد الحقوق بذريعة “الأمن الوطني” و“السلامة العامة” وغيرها من دون معايير دقيقة أو رقابة قضائية فعّالة، بما يفتح الباب للتأويلات التعسفية.
– تغييبُ مبادئ ديمقراطية أساسية مثل “السيادة الشعبية” ولفظة “الديمقراطية”، وتجاهل حقوقٍ محورية كحرية التجمّع والتظاهر السلمي والإضراب وتكوين النقابات المستقلة والحق في الوصول إلى المعلومات والمشاركة السياسية الفعلية.
– غياب آليات مشاركة شعبية حقيقية في صياغة الدستور الدائم، مثل برامج التثقيف المدني والاستشارات العامة أو الاستفتاءات، ما يضعف الشرعية الإجرائية للانتقال.
خارطة طريق للإصلاح: تعديلات بنيوية لانتقال قابل للتطبيق
يبقى الإعلان قابلاً للإصلاح، إذ تُتيح المادة 50 تعديله باقتراح من الرئيس وموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب. وتقترح هذه الورقة مساراً إصلاحياً يتضمن:
- المحكمة الدستورية العليا: تنصّ المادة 47 على صلاحية الرئيس في تعيين جميع أعضاء المحكمة، بما يقوّض استقلاليتها. لتعزيز الرقابة الدستورية، تُقترح لجنةُ ترشيحاتٍ مستقلة تضمّ ممثلين عن مجلس القضاء الأعلى ومجلس الشعب ونقابة المحامين وكليات الحقوق ومنظمات المجتمع المدني، تعتمد إجراءاتٍ شفافة في الاختيار، على أن ينتخب مجلس الشعب القضاة بأغلبية الثلثين، مع تحديد ولايات متداخلة لمدّة تسع سنوات لضمان الاستمرارية المؤسسية.
- مجلس الشعب: كي يصبح مؤسسةً تشريعيةً حقيقيةً تمثّل التنوّع السوري، تُقترح آلية تمثيل ثلاثية (جغرافي/وظيفي/مجتمع مدني)، مع معايير نزاهة وكفاءة للمرشحين تُطبّق مؤقتاً خلال مرحلة انتقالية محددة (ثلاث سنوات) قبل تنظيم انتخابات عامة. كما تُمنح للمجلس صلاحيات موسّعة تشمل تشكيل لجان تحقيق، وسحب الثقة من الوزراء، والموافقة على تعيين كبار المسؤولين، وممارسة رقابة جدّية على إعلان الطوارئ.
- تعديل المادة 23: تنصّ المادة بصيغتها الراهنة على قيود واسعة على الحقوق والحريات استناداً إلى مبررات فضفاضة. وتُقترح الصياغة التالية: «لا يجوز فرض قيود على الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان إلا بموجب قانون، وعلى نحوٍ ضروري للغاية في مجتمع ديمقراطي لحماية الأمن الوطني من تهديداتٍ حقيقية بالعنف أو القوة، أو لحماية السلامة العامة في حالات وجود خطرٍ واضحٍ وداهم، أو لضمان احترام حقوق وحريات الآخرين. ويجب أن تكون هذه القيود متناسبةً مع الغاية المرجوة منها، وألّا تنطوي على تمييز، وأن تخضع دائماً للمراجعة القضائية، من دون المساس بجوهر الحق أو الحرية.»
- إضافات أساسية للمشاركة الديمقراطية:
– حرية التجمّع والتظاهر السلمي: إقرار الحقّ في التجمّع والتظاهر من دون إذن مسبق، مع الاكتفاء بإخطارٍ لا يتحوّل إلى ترخيص فعلي، وحظر استخدام القوة ضد التجمّعات السلمية.
– الوصول إلى المعلومات: تكريس الحقّ في الحصول على معلوماتٍ تخصّ السلطات العامة ضمن استثناءات محددة ومُبرّرة، مع نشرٍ استباقي للمعلومات ذات الأهمية العامة.
– المشاركة السياسية: ضمان الحقّ في المشاركة المباشرة أو عبر ممثلين منتخبين، والاقتراع والترشّح في انتخابات حرّة ونزيهة، وتكافؤ الفرص في تولّي الوظائف العامة.
– المسار الدستوري: إنشاء جمعية تأسيسية محدّدة الصلاحيات والجدول الزمني لصياغة الدستور الدائم، بما يبدّد الغموض ويضمن الانتقال الديمقراطي.
مبادئ التنفيذ: التدرّج، والقيود الزمنية، والدعم الفني لتحقيق توازنٍ عملي بين الاستقرار والتغيير، تُنفّذ الإصلاحاتُ الدستوريةُ والقانونيةُ تدريجياً، بدءاً بتثبيت الحقوق والحريات واستقلال القضاء، ثم الانتقال إلى الإصلاحات التشريعية المرتبطة بتحسّن الأوضاع الأمنية، وصولاً إلى انتخاباتٍ عامةٍ شاملة. ويُقيَّد العملُ بالتدابير الاستثنائية بمددٍ زمنية محددة لا تُجدَّد إلا بموافقة أغلبيةٍ واسعة في مجلس الشعب. ويوصى بتوفير دعمٍ دولي فني عبر مكتبٍ دستوري مستقل يعزّز قدرة المؤسسات الوطنية على رسم مسارٍ ديمقراطي مستقل، مع الإبقاء على قدرٍ كافٍ من المرونة الدستورية للاستجابة للتحولات السياسية والاجتماعية من دون التفريط بالمبادئ الديمقراطية الأساسية.
خاتمة
يمثّل الإعلان الدستوري نقطةَ انطلاق قابلةً للتطوير، ويظلّ نجاح الانتقال رهناً بحوارٍ وطني تشاركي يضمن تمثيل جميع مكوّنات المجتمع السوري، بما يحوّل التحديات الراهنة إلى فرصةٍ لصياغة دستورٍ ديمقراطي يُجسّد تطلّعات السوريين في دولة القانون والمؤسسات.