فضل عبد الغني
يرتكز النظام القانوني الدولي المعاصر على مجموعة من المبادئ الأساسية التي يفترض، من الناحية النظرية، أنَّها تنطبق بقوة متساوية على جميع الدول ذات السيادة، وفي مقدمتها حظر استخدام القوة المنصوص عليه في المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة، ومبدأ حرمة السيادة الإقليمية؛ غير أنَّ الممارسة الفعلية تكشف عن تناقضات عميقة تُضعِف شرعية البنية القانونية الدولية ذاتها.
وتمثل ظاهرة ازدواجية المعايير – حين تتمتع بعض الدول بحصانة فعلية من آليات المساءلة، في حين تُواجَه دول أخرى بإدانات وعقوبات سريعة -أحد أبرز العوامل التي تُقوِّض مصداقية القانون الدولي وتُسرِّع من تآكل قواعده الآمرة.
يتجلى هذا التباين بوضوح عند دراسة رد فعل المجتمع الدولي على العمليات العسكرية الإسرائيلية المتكررة داخل الأراضي السورية، ولا سيما تلك التي تكثفت بصورة ملحوظة بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024.
فقد أسفرت التوغلات البرية والغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة ضد السكان المدنيين السوريين عن خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وأثارت تساؤلات جدية حول مدى احترام القانون الدولي الإنساني والمبادئ الأساسية لسيادة الدول.
ويغدو التساؤل مشروعاً: لو ارتكبت دولة أخرى أفعالاً مماثلة ضد إسرائيل، كيف كان سيكون رد فعلها، وما طبيعة التحركات السياسية والقانونية التي كانت ستُستَنفَر دفاعاً عنها؟
السيادة وحظر استخدام القوة وانتهاك المعاهدات
يُشكِّل مبدأ السيادة أحد الأعمدة المؤسسة للنظام الدولي المعاصر، ويعني، في جوهره، تمتع الدولة بسلطة عليا وحصرية في ممارسة اختصاصاتها داخل حدودها الإقليمية دون تدخل خارجي غير مشروع.
وقد اكتسب حظر استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية صفة القاعدة الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، وتلتزم بها جميع الدول بغض النظر عن التزاماتها التعاهدية الأخرى.
وعندما تعبر قوات عسكرية حدوداً معترفاً بها دولياً دون موافقة الدولة المعنية، وتنفذ عمليات اعتقال، وتستخدم القوة المميتة بما يؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين، فإنَّ هذه الأفعال تُشكِّل انتهاكاً واضحاً لسيادة الدولة وسلامة أراضيها.
وتجسد العملية العسكرية الإسرائيلية في بلدة بيت جن بتاريخ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 هذا النمط بصورة جلية؛ إذ دخلت قوات احتياط إسرائيلية الأراضي السورية في وقت متأخر من الليل، بين الساعة الثانية والثالثة صباحاً تقريباً، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن ثلاثة عشر مدنياً سورياً، إضافة إلى طفلين كانا ضمن الضحايا، وإصابة خمسة وعشرين مدنياً آخرين بجروح متفاوتة.
وتضيف اتفاقية فك الارتباط الموقعة عام 1974 بين إسرائيل وسوريا قيداً تعاقدياً إضافياً على أي عمليات عسكرية في المنطقة الجغرافية المعنية، إذ تهدف إلى منع التصعيد والحفاظ على قدر من الاستقرار الإقليمي.
ويفترض البناء المفاهيمي للقانون الدولي أنَّ هذه المبادئ الأساسية تسري على جميع الدول دون استثناء، غير أنَّ النمط الموثق للاعتداءات الإسرائيلية يكشف عن فجوة مقلقة بين عالمية القواعد في مستوى الخطاب، وتطبيقها الانتقائي في الواقع العملي.
أنماط التصعيد وتآكل المعايير
لا يُعبِّر ما سبق عن حادثة منفردة بقدر ما يكشف عن نمط تصعيدي ممنهج يُسرِّع من تآكل المعايير القانونية الدولية.
إذ تمثِّل هذه الهجمة ثالث عملية عسكرية إسرائيلية كبرى في جنوب سوريا منذ بداية المرحلة الانتقالية في البلاد، بعد توغلات سابقة أسفرت كذلك عن سقوط ضحايا مدنيين واعتقالات داخل الأراضي السورية.
وقد كثفت إسرائيل، بصورة ملحوظة، عملياتها العسكرية عبر مختلف المناطق السورية منذ انهيار حكومة الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، مستفيدة من هشاشة الوضع الانتقالي وفراغات السلطة والأمن.
ولا تستمد القواعد القانونية قوتها من مجرد تدوينها في نصوص المعاهدات أو الأعراف، بل من الالتزام بها وتطبيقها بشكل متسق؛ وعندما تتكرر الانتهاكات الجسيمة دون عواقب تُذكَر، تتراجع الطبيعة الإلزامية للقواعد؛ لأنَّ المنتهكين المحتملين يلمسون انخفاضاً ملموساً في تكلفة عدم الامتثال، كما أنَّ تقاعس المجتمع الدولي عن الرد الفعال يُفهم ضمنياً على أنَّه قبول أو تسامح مع هذا السلوك.
ويثير هذا النمط التصعيدي كذلك تساؤلات أوسع حول الاستقرار الإقليمي، إذ إنَّ مواجهة هذه العمليات بمقاومة مسلحة، وما يرافقها من اشتباكات تمتد لساعات وتستلزم تعزيزات كبيرة تشمل الغارات الجوية والمدفعية، يزيد بشكل كبير من أخطار انزلاق المنطقة إلى دوامات أوسع من العنف.
ويتناقض رد الفعل الحازم للمجتمع الدولي إزاء انتهاكات بعض الفاعلين مع صمته أو مواقفه الخجولة عندما تصدر أفعال مُماثلة عن إسرائيل، وهي أفعال كانت ستستدعي على الأرجح إدانات واسعة، وعقوبات صارمة، وربما ردوداً عسكرية لو ارتكبتها دول أخرى.
إنَّ القتل والقصف الإسرائيلي اللذين يهدفان إلى فرض ترتيبات سلام قسرية على سوريا يفرضان، بحكم القانون والأخلاق، بناء موقف عربي ودولي متماسك ومتضامن مع سوريا، يرفض تطبيع هذا النمط من الانتهاكات ويطالب بمساءلة جدية وغير انتقائية عن الجرائم المرتكبة.






