في حديث مطول، استطلعت صحيفة “الثورة السورية” رأي فضل عبد الغني، مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، حول القضية المثارة، والذي أكد أن فتح السجون ومراكز الاحتجاز السورية السابقة أمام التصوير الدرامي يُعد سلوكاً بالغ الخطورة قانونياً وحقوقياً.
ووفق الحقوقي، يُحتمل أن تكون هذه المواقع مسارح لجرائم دولية كبرى، بما فيها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ما يعني أن أي دخول أو تعديل فيها من دون ضوابط صارمة قد يُشكّل مساساً مباشراً بأدلة مادية يجب الحفاظ عليها لصالح التحقيقات والمحاكمات الجنائية اللاحقة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
وشدد عبد الغني على أن هذه المواقع ليست ممتلكات عادية أو قابلة للتصرف كعقارات، بل هي عملياً “أماكن أدلة”، وعلى الدولة والسلطات الفعلية واجب قانوني في حمايتها ومنع أي عبث بها، ورأى أن أي تصوير فني داخلها يستلزم عادة تغييرات مادية؛ من طلاء، وإزالة آثار، وتغيير الأبواب أو الأرضيات، ما يهدد بإتلاف أدلة جنائية دقيقة، تشمل آثار دماء، وبصمات، وكتابات، وبقايا أدوات الاحتجاز، وهي عناصر حاسمة لإثبات أنماط التعذيب ووقائع الإخفاء والقتل خارج القانون.
طمس الحقيقة وعرقلة العدالة
نبّه عبد الغني إلى أن أي إتلاف للأدلة أو تحوير لمعالم الموقع قبل استكمال التحقيقات قد يُعتبر عرقلة مباشرة للعدالة، خاصة إذا جرى بإذن أو تسهيل من سلطات عامة، ما يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب.
ولفت الحقوقي إلى أن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان طالبت مراراً بحماية مواقع الاحتجاز، وأن تحويلها إلى “ديكورات تصويرية” يُضعف الثقة بجدية الدولة في تنفيذ التزاماتها الحقوقية والقانونية.
وأوضح أن التعامل مع هذه المواقع يجب أن يُبنى على منطق “الحراسة القانونية” وليس “إعادة الاستثمار”، داعياً إلى خطوات فورية تشمل تأمين الموقع، ومنع أي تعديل مادي، وتعيين جهة مسؤولة عن إدارته، مع بروتوكولات تحفظ الأدلة، وتتيح مشاركة الضحايا ومنظماتهم في أي قرار يتعلق بمصير هذه المواقع.
“عدالة الانتقالية لا تبدأ بالتصوير”
رأى عبد الغني أن تحويل مواقع القمع إلى “أماكن ذاكرة” قد يكون مشروعاً ضمن مسار العدالة الانتقالية، لكن بشرط أولوية التوثيق والتحقيق أولاً، لا استغلال المكان في الإنتاج الدرامي قبل استنفاد مقتضيات العدالة، وحذّر من أن هذا الاستخدام قد يُفرغ المكان من رمزيته الحقوقية، ويحوّله إلى مجرد خلفية بصرية تُضعف أثره التوعوي، وتطمس الشهادة التاريخية للجريمة.
واعتبر أن السماح بالتصوير في هذه المواقع قبل انتهاء التحقيقات يحمل رسالة سياسية ورمزية خطيرة، تُطبّع إرث القمع، وتعيد تأهيل مؤسسات الانتهاك رمزياً عبر دمجها في سوق الترفيه، ما يعيد تشكيل السردية العامة من “أماكن تعذيب” إلى “ديكورات حيادية”، على حساب حق المجتمع في الحقيقة والعدالة.
انتهاك للكرامة وتهديد لذاكرة الضحاياوأكد أن العبث بهذه الأماكن قبل التوثيق الكامل لا يمس فقط مسار العدالة، بل يمثل انتهاكاً مباشراً لكرامة الضحايا وذويهم، بتحويل مواقع ألمهم إلى مشاهد فنية تفتقر إلى الاعتراف بالمسؤولية، خصوصاً في بلد لا تزال فيه آلاف العائلات تعتبر السجون السابقة مواقع محتملة لمصير أحبّائها، ما يجعل استخدامها للتصوير إهانة مضاعفة وإعادة إنتاج للعنف بصيغة رمزية.
حماية فورية وضمانات قانونية
دعا عبد الغني إلى الالتزام بالمعايير الدولية لحماية مواقع الجرائم، والتي تشمل “تعليقاً فورياً لأي نشاط تصوير أو ترميم في هذه المواقع حتى انتهاء التقييم الجنائي والحقوقي المستقل، وإصدار تصنيفات قانونية واضحة تضمن حماية هذه المواقع، وتجريم أي عبث أو تعديل من دون تفويض قضائي”.
وشدد على ضرورة تأسيس آلية وطنية مستقلة لحماية الأدلة، بالتعاون مع منظمات حقوق الإنسان والجهات الدولية المختصة، لضمان توثيق محكم، واستخدام مدروس للموقع لاحقاً ضمن شروط تحفظ العدالة وكرامة الضحايا.وختم عبد الغني بالتأكيد أن التعامل مع هذه المواقع لا يجوز أن ينفصل عن سياق المساءلة والعدالة الانتقالية، وأن أي استخدام تجميلي أو فني خارج هذا الإطار يسهم في طمس الحقيقة، ويُكرّس الإفلات من العقاب.






