تظّل قضية المختفين قسرياً في سوريا، واحدة من أبرز الملفات الإنسانية والحقوقية في الحرب السوريّة، منذ العام 2011، والتي انتهت بسقوط نظام الأسد وهروبه رئيسه “لاجئاً” إلى روسيا، في الثامن من شهر تشرين الثاني الجاري.
وفي سلسلة مقابلات على تلفزيون سوريا وموقعها الإلكتروني، سلّط فضل عبد الغني -مدير الشبكة السورية لـ حقوق الإنسان- الضوء على حقائق صادمة وأرقام مروعة تتعلق بمصير المعتقلين والمختفين قسرياً في سوريا، وأساليب إجرامية انتهجها النظام السوري السابق للتخلّص منهم داخل سجونه ومعتقلاته.
أرقام صادمة
منذ اندلاع الثورة السورية، لجأ النظام السوري السابق وبشكل ممنهج إلى الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري كوسيلة لإسكات المعارضين، ووفقاً لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد المعتقلين والمختفين قسرياً أكثر من 136 ألف شخص، يتوزعون إلى قرابة 96 ألف مختف قسرياً، و40 ألف معتقل تعسفياً.
ورغم فتح غالبية مراكز الاحتجاز خلال الأيام الماضية، منذ 27 شهر تشرين الثاني الفائت، وحتى الآن، فإنّ عدد المفرج عنهم لم يتجاوز الـ31 ألفاً، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ما يترك أكثر من 105 آلاف مختفٍ قسرياً، من دون معلومات عن مصيرهم، ما يرجّح أنّهم -للأسف- قد توفوا جميعهم، بحسب مدير الشبكة السورية، فضل عبد الغني.
وأشار إلى أنّ النظام السابق أصدر، عام 2018، بيانات وفاة لبعض المختفين عبر السجّل المدني، ما أثار التساؤلات حول طريقة وفاتهم، إذ تشير التقارير الحقوقية إلى وفاة العديد منهم تحت التعذيب أو نتيجة لظروف احتجاز غير إنسانية.
وقد بلغت الإحصاءات المسجّلة 1100 حالة وفاة، عام 2018، ولاحقاً 1600 حالة، بإجمالي 2,500 حالة مؤكّدة، كما جرى توثيق 6000 امرأة مختفية قسرياً، و2400 طفل من بين المختفين، مع وفاة 191 طفلاً و95 امرأة تحت التعذيب.
وشدّد “عبد الغني” على أنّ العدد التقريبي للمختفين الذين تمت تصفيتهم قد يصل إلى 85% من إجمالي المختفين، ما يرفع التقديرات الحقيقية إلى أرقامٍ أعلى بكثير، تضاف إلى المدنيين الذين قتلهم نظام الأسد عبر عمليات القصف والبالغ عددهم قرابة 202 ألف، فضلاً عن تشريد نظام الأسد البائد لقرابة 13 مليون سوري، منذ العام 2011.
ظروف احتجاز كارثية
وعن أوضاع السجون السورية في عهد النظام السابق، يصفها “عبد الغني” بأنّها كانت “كارثية بكل المقاييس”، وأنّها مع أماكن الاحتجاز وأقبية الأفرع الأمنية، تتميّز بغياب التهوية، الاكتظاظ الكبير، وانعدام الخدمات الصحية، ما أدّى إلى تفشي كثير من الأمراض بين المعتقلين، ووفاة كثيرين منهم.
وأشار إلى أنّ معظم الوفيات داخل السجون كانت بسبب الإهمال الطبي أو التعذيب الممنهج، فقد جرى توثيق 8 آلاف حالة وفاة مؤكّدة من خلال بيانات السجّل المدني، مع توقعات بأن تكون الأرقام الحقيقية أعلى بكثير.
“مصير جثامين الضحايا”
كذلك، يتهم “عبد الغني” النظام السوري باستخدام أساليب متعدّدة للتخلّص من جثامين الضحايا، بما في ذلك الحرق أو دفنهم في مقابر جماعية مجهولة، مؤكّداً أن هذه الادّعاءات تحتاج إلى تحقيقات معمّقة، بما يشمل الكشف عن أماكن الدفن -منها المقابر الجماعية- وأخذ عينات الحمض النووي للتعرّف على هويات الضحايا.
وتعمل الشبكة السورية -وفق “عبد الغني”- على جمع الأدلة باستخدام شهادات الناجين، عائلات الضحايا، ووثائق مسربة، مشدّدة على ضرورة استقلال القضاء السوري لإجراء محاكمات عادلة ومحاسبة المتورطين، الذين يُقدر عددهم بـ6000 ضابط على الأقل، ممن ارتكبوا هذه الجرائم على مدار 14 عاماً.
وأكّد أنّ “النظام السوري كان يعتمد على بيروقراطية صارمة لتوثيق المعتقلين، وهو ما ساعد الشبكة السورية على كشف الجرائم، لكن إصدار بيانات وفاة متأخّرة، يعكس محاولة النظام في طمس الأدلة”، لافتاً إلى أنّه من بين الأساليب المثيرة للجدل، استخدام الأفران لحرق الجثث وإخفاء آثار التعذيب عليها، وهو ما يؤكد الطبيعة الإجرامية للنظام وسعيه للتخلّص من أي دليل يورّطه.
تحديات ومطالب
يواجه ملف المعتقلين والمختفين قسرياً تحديات كبيرة، أبرزها:
- غياب الإرادة الدولية لمحاسبة النظام السوري.
- استمرار محاولات التغطية على الجرائم.
- افتقار الدعم الكافي للأسر المتضررة والناجين من المعتقلات.
ووجّه “عبد الغني” رسالة إلى القيادة السورية الجديدة، داعياً إيّاها إلى الحفاظ على الأدلة المتعلقة بجرائم النظام والتنسيق مع المؤسسات الحقوقية لضمان محاسبة المسؤولين.
وشدّد على ضرورة ملاحقة المسؤولين عن الجرائم، بمن فيهم بشار الأسد وكبار القادة الأمنيين، مؤكّداً أنّ العدالة الانتقالية تمثل السبيل لبناء سوريا ديمقراطية.
كذلك، أشار إلى أنّ الناجين من المعتقلات يخرجون في حالات نفسية وجسدية مدمرة، وفي حين تسعى بعض المنظمات إلى تقديم المساعدة الطبية لهم، يظل الدعم النفسي والاجتماعي تحدياً كبيراً يتطلّب جهوداً مستمرة لتأهيلهم وإعادة دمجهم في المجتمع.
يشار إلى أنّ ملف المعتقلين والمختفين قسرياً في سوريا، يعكس واحدة من أعمق المآسي الإنسانية المعاصرة، إذ إن تحقيق العدالة والكشف عن مصير الآلاف من المختفين، بعد سقوط النظام وفتح السجون، يتطلب جهوداً مكثّفة، محلياً ودولياً، لضمان محاسبة المسؤولين وإنصاف الضحايا وعائلاتهم.